السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
((ذكرى الشهيد))
وسط الهدوء الذي لم تنعم به ليبيا مدة سنوات وسنوات، ظهرت أصوات أقدام تسير بين حشائش تفتقر العناية والاهتمام. كان رجلاً مسناً تجاوز السبعين عاماً، ويضم بكفه يد حفيده الصغير الذي لم يتجاوز 6 سنوات.
- إلى أين يا جدي ؟
- أوشكنا على الوصول !
كانت خطوات تعد على أصابع اليد، لكنها كانت بالنسبة للجد أيام وأشهر تذكر فيها ذكريات وكزت قلبه ألماً ونزفت دموعاً وأجهشت بكاءاً مريراً. وأخيراً أعلن الجد وصوله لمبتغاه ووقف للحظات على مقربة من ذلك القبر الممدد بين الحشائش والذي نقش عليه اسم لطالما كان يناديه دوماً واعتنى به منذ تلألأت عينيه بناظرها للدنيا التي لم تكن حينها تنعم بالعدل والسلام، إنما سنوات ظلم وطغيان وألم وحرمان حصدت فيها أرواح كثيرة بين قضبان وأغلال، وبين رصاص اغتيال وإعدام، وبين حقن أفقدت نعومة البراءة وجمالها، وطغت بظلمها وسوادها على قلوب الأبرياء.
فانحنى الجد متربعاً فوق الحشائش والدموع قد رسمت مجاريها على وجهه المجعد الذي أعلن شيخوخته منذ أيام شبابه منذ إعلان ما أرغم على حفظه وتحفيظه لأبنائه طوال سنوات دراسته وهم لا يرددون سوى (السلطة للشعب.. والثورة الشعبية.. والمؤتمرات واللجان الثورية).
ولم يشعر الجد إلا بيد صغيرة حنونة تمسح دموعه عن خده، فرفع الجد عينيه ونظر لوجه حفيده الذي لم يدرك ما يجري حوله ولا سبب وجودهما هنا. ونطق حفيده بصوت مرتجف تتغلغله نبرات الألم والحزن:
- لِمَ تبكي يا جدي ؟
فأطلق الجد زفيراً مشبعاً بالحسرة والذكريات، ثم سحب حفيده وأجلسه في حجره وأدار رأسه ناحية القبر أمامهما وقال:
- بابا هناك يا عزيزي.
فقال الحفيد ولم يستوعب حتى هذه اللحظة ما معنى هذه الكتل الغريبة من الأسمنت التي تملأ المكان:
- ومن هو بابا ؟
- إنه إنسان كان ينتظر قدومك لهذه الدنيا بفارغ الصبر، وأراد أن تستقبلك الدنيا وهي تنعم بالحرية والسعادة والكرامة للإنسان، وقد نجح حقاً في هذا، ولكن للأسف لم ينجح أن يراك وأنت تستقبل فيها.
- ولماذا ذهب ؟
- لم يكن هذا باختياره ! بل أجبروه على الذهاب.
- من هم ؟
- عصابة ضخمة، رئيسهم رجل لا يؤمن بالحرية ولا العدالة ولا الديمقراطية رغم أنها كانت دائماً على لسانه، وجماعته مجموعة من الرجال المجرمين الذين يتلقون الأوامر كآلات تنفذ دون وعي وتقتل وتغتصب وتسرق وتدمر وتحرق وتهدم وتثير الرعب والفساد !
- وأين هم الآن ؟
- هزموا شر هزيمة على يد والدك وإخوانك في جميع أنحاء ليبيا الحبيبة المحررة أخيراً !
- إذن أبي بطل
-ونعم الأبطال يا بني، آلاف الذين ضحوا بأنفسهم مقابل أن تفتح عينيك على دنيا الحرية ! وآلاف الذين رقدوا في المستشفيات لأجلك ! وآلاف النساء اللاتي أجبرن على نيل العقاب من العصابة وتدمّرت حياتهن وفقدن عائلاتهن أو حياتهن كلها ! وآلاف الذين فرّوا بعيداً خوفاً على حياتهم وخصوصاً وأن العصابة لا تترك العائلات وشأنهن ولو داخل بيوتهن ! ورغم كل هذا.. هم جميعاً يبتسمون لك اليوم يا عزيزي ! وسعيدون لأن الحلم تحقق واستقبلتك الدنيا متبسّمة ومرحّبة بجيل جديد سينعم بالكرامة ويعظّم حقوق الإنسان !
وهدأ المكان بعدها قبل أن يلتفت الحفيد بخفة وسرعة وينظر لجده متأملاً عينيه الدامعة ثم يقول:
- ولماذا تبكي يا جدي إن كانت النتيجة هكذا ؟
فتنهّد الجد قبل أن يمسح على رأس حفيده محملقاً في نقوش القبر وهو يقول:
- إنه ألم الفراق ظلماً.. إنه ألم الفراق..
- وما الفائدة من التخلص من هذه العصابة ؟
- الآن أدرك العالم من هي ليبيا، وستفخر كونك أحد أبنائها، وسيكون لك الحق في إبداء رأيك بداخلها، وستكون السلطة لك وليست عليك، وستعيش بكرامة كما يعيش العالم، وسترقى بتعليم جيد ومنظم ومحترم وفعّال، وإن مرضت فستجد الطب والعلاج بين يديك وليس كمن كانوا يدخلون المستشفيات فلا يغادرونها إلا جثثاً، وليس كمن يشاهد الجريمة حوله فلا يجد لمن يبلغ عنها، وليس الذي يدخل للسجن فلا يغادره إلا بشحنة تدفعه لارتكاب المزيد من الجرائم، وليس الذين لا يجدون وسيلة منظمة تنقلهم من مكان لآخر، ولا الذين تضيع حقوقهم فلا يجدون محاكم تقف في صفهم، ولا من تقع القرارات المفاجئة فوق رأسه وعليه تطبيقها شاء أم أبى، ولا من ضاعت نقوده وثروته كجثة تنهشها عصابة لا تكتفي ولا تشبع أبداً، ولا من يسافر بنيّة سليمة فيكتشف من ظن به الظنون ويلاحقه من مكان لآخر ليطرحه صريعاً !! إنما حياة الحرية والمجد والديمقراطية، حياة الهناء والعزة والكرامة !! الحياة التي ثار الناس لأجلها ! التي ثار الأبطال وأسود أحفاد المختار تحت عنوانها.. ثورة السابع عشر من فبراير !
ثم وقف الحفيد قافزاً برشاقة واستدار لجده قائلاً بحماس:
- جدي، جدي !!!!!
فابتسم الجد لبراءته وقال:
- نعم يا بني ؟
فرفع الحفيد رأسه ونظر للسماء قائلاً بفخر وعزة:
- أنا ليبي حر ! حر وأفتخر !!
فأمال الجد برأسه وضم حفيده إلى صدره وهو يقول:
- هنيئاً لك أيها الحر..
**النهاية**
((ذكرى الشهيد))
وسط الهدوء الذي لم تنعم به ليبيا مدة سنوات وسنوات، ظهرت أصوات أقدام تسير بين حشائش تفتقر العناية والاهتمام. كان رجلاً مسناً تجاوز السبعين عاماً، ويضم بكفه يد حفيده الصغير الذي لم يتجاوز 6 سنوات.
- إلى أين يا جدي ؟
- أوشكنا على الوصول !
كانت خطوات تعد على أصابع اليد، لكنها كانت بالنسبة للجد أيام وأشهر تذكر فيها ذكريات وكزت قلبه ألماً ونزفت دموعاً وأجهشت بكاءاً مريراً. وأخيراً أعلن الجد وصوله لمبتغاه ووقف للحظات على مقربة من ذلك القبر الممدد بين الحشائش والذي نقش عليه اسم لطالما كان يناديه دوماً واعتنى به منذ تلألأت عينيه بناظرها للدنيا التي لم تكن حينها تنعم بالعدل والسلام، إنما سنوات ظلم وطغيان وألم وحرمان حصدت فيها أرواح كثيرة بين قضبان وأغلال، وبين رصاص اغتيال وإعدام، وبين حقن أفقدت نعومة البراءة وجمالها، وطغت بظلمها وسوادها على قلوب الأبرياء.
فانحنى الجد متربعاً فوق الحشائش والدموع قد رسمت مجاريها على وجهه المجعد الذي أعلن شيخوخته منذ أيام شبابه منذ إعلان ما أرغم على حفظه وتحفيظه لأبنائه طوال سنوات دراسته وهم لا يرددون سوى (السلطة للشعب.. والثورة الشعبية.. والمؤتمرات واللجان الثورية).
ولم يشعر الجد إلا بيد صغيرة حنونة تمسح دموعه عن خده، فرفع الجد عينيه ونظر لوجه حفيده الذي لم يدرك ما يجري حوله ولا سبب وجودهما هنا. ونطق حفيده بصوت مرتجف تتغلغله نبرات الألم والحزن:
- لِمَ تبكي يا جدي ؟
فأطلق الجد زفيراً مشبعاً بالحسرة والذكريات، ثم سحب حفيده وأجلسه في حجره وأدار رأسه ناحية القبر أمامهما وقال:
- بابا هناك يا عزيزي.
فقال الحفيد ولم يستوعب حتى هذه اللحظة ما معنى هذه الكتل الغريبة من الأسمنت التي تملأ المكان:
- ومن هو بابا ؟
- إنه إنسان كان ينتظر قدومك لهذه الدنيا بفارغ الصبر، وأراد أن تستقبلك الدنيا وهي تنعم بالحرية والسعادة والكرامة للإنسان، وقد نجح حقاً في هذا، ولكن للأسف لم ينجح أن يراك وأنت تستقبل فيها.
- ولماذا ذهب ؟
- لم يكن هذا باختياره ! بل أجبروه على الذهاب.
- من هم ؟
- عصابة ضخمة، رئيسهم رجل لا يؤمن بالحرية ولا العدالة ولا الديمقراطية رغم أنها كانت دائماً على لسانه، وجماعته مجموعة من الرجال المجرمين الذين يتلقون الأوامر كآلات تنفذ دون وعي وتقتل وتغتصب وتسرق وتدمر وتحرق وتهدم وتثير الرعب والفساد !
- وأين هم الآن ؟
- هزموا شر هزيمة على يد والدك وإخوانك في جميع أنحاء ليبيا الحبيبة المحررة أخيراً !
- إذن أبي بطل
-ونعم الأبطال يا بني، آلاف الذين ضحوا بأنفسهم مقابل أن تفتح عينيك على دنيا الحرية ! وآلاف الذين رقدوا في المستشفيات لأجلك ! وآلاف النساء اللاتي أجبرن على نيل العقاب من العصابة وتدمّرت حياتهن وفقدن عائلاتهن أو حياتهن كلها ! وآلاف الذين فرّوا بعيداً خوفاً على حياتهم وخصوصاً وأن العصابة لا تترك العائلات وشأنهن ولو داخل بيوتهن ! ورغم كل هذا.. هم جميعاً يبتسمون لك اليوم يا عزيزي ! وسعيدون لأن الحلم تحقق واستقبلتك الدنيا متبسّمة ومرحّبة بجيل جديد سينعم بالكرامة ويعظّم حقوق الإنسان !
وهدأ المكان بعدها قبل أن يلتفت الحفيد بخفة وسرعة وينظر لجده متأملاً عينيه الدامعة ثم يقول:
- ولماذا تبكي يا جدي إن كانت النتيجة هكذا ؟
فتنهّد الجد قبل أن يمسح على رأس حفيده محملقاً في نقوش القبر وهو يقول:
- إنه ألم الفراق ظلماً.. إنه ألم الفراق..
- وما الفائدة من التخلص من هذه العصابة ؟
- الآن أدرك العالم من هي ليبيا، وستفخر كونك أحد أبنائها، وسيكون لك الحق في إبداء رأيك بداخلها، وستكون السلطة لك وليست عليك، وستعيش بكرامة كما يعيش العالم، وسترقى بتعليم جيد ومنظم ومحترم وفعّال، وإن مرضت فستجد الطب والعلاج بين يديك وليس كمن كانوا يدخلون المستشفيات فلا يغادرونها إلا جثثاً، وليس كمن يشاهد الجريمة حوله فلا يجد لمن يبلغ عنها، وليس الذي يدخل للسجن فلا يغادره إلا بشحنة تدفعه لارتكاب المزيد من الجرائم، وليس الذين لا يجدون وسيلة منظمة تنقلهم من مكان لآخر، ولا الذين تضيع حقوقهم فلا يجدون محاكم تقف في صفهم، ولا من تقع القرارات المفاجئة فوق رأسه وعليه تطبيقها شاء أم أبى، ولا من ضاعت نقوده وثروته كجثة تنهشها عصابة لا تكتفي ولا تشبع أبداً، ولا من يسافر بنيّة سليمة فيكتشف من ظن به الظنون ويلاحقه من مكان لآخر ليطرحه صريعاً !! إنما حياة الحرية والمجد والديمقراطية، حياة الهناء والعزة والكرامة !! الحياة التي ثار الناس لأجلها ! التي ثار الأبطال وأسود أحفاد المختار تحت عنوانها.. ثورة السابع عشر من فبراير !
ثم وقف الحفيد قافزاً برشاقة واستدار لجده قائلاً بحماس:
- جدي، جدي !!!!!
فابتسم الجد لبراءته وقال:
- نعم يا بني ؟
فرفع الحفيد رأسه ونظر للسماء قائلاً بفخر وعزة:
- أنا ليبي حر ! حر وأفتخر !!
فأمال الجد برأسه وضم حفيده إلى صدره وهو يقول:
- هنيئاً لك أيها الحر..
**النهاية**